لابدّ من بيان المراد من أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الاية المباركة ، لانّ الله سبحانه وتعالى يقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .
محلّ الاستدلال في هذه الاية المباركة نقطتان :
النقطة الاُولى : المراد من أهل البيت .
النقطة الثانية : المراد من إذهاب الرجس .
فإذا تمّ المدّعى على ضوء القواعد المقرّرة في مثل هذه البحوث في تلك النقطتين ، تمّ الاستدلال بالاية المباركة على إمامة علي أمير المؤمنين ، وإلاّ فلا يتمّ الاستدلال .
المراد من أهل البيت في هذه الاية المباركة مَن ؟ لابدّ هنا من الرجوع أيضاً إلى كتب الحديث والتفسير ، وإلى كلمات العلماء من محدّثين ومفسّرين ومؤرخين ، لنعرف المراد من قوله تعالى في هذه الاية ، أي : المخاطب بأهل البيت من هم ؟ ونحن كما قرّرنا من
الصفحة 10 قبل ، نرجع أوّلاً إلى الصحاح والمسانيد والسنن والتفاسير المعتبرة عند أهل السنّة .
وإذا ما رجعنا إلى صحيح مسلم ، وإلى صحيح الترمذي ، وإلى صحيح النسائي ، وإلى مسند أحمد بن حنبل ، وإلى مسند البزّار ، وإلى مسند عبد بن حُميد ، وإلى مستدرك الحاكم ، وإلى تلخيص المستدرك للذهبي ، وإلى تفسير الطبري ، وإلى تفسير ابن كثير ، وهكذا إلى الدر المنثور ، وغير هذه الكتب من تفاسير ومن كتب الحديث :
نجد أنّهم يروون عن ابن عباس ، وعن أبي سعيد ، وعن جابر بن عبدالله الانصاري ، وعن سعد بن أبي وقّاص ، وعن زيد بن أرقم ، وعن أُمّ سلمة ، وعن عائشة ، وعن بعض الصحابة الاخرين :
أنّه لمّا نزلت هذه الاية المباركة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، جمع أهله ـ أي جمع عليّاً وفاطمة والحسن والحسين ـ وألقى عليهم كساءً وقال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي » .
وفي بعض الروايات : ألقى الكساء على هؤلاء ، فنزلت الاية المباركة .
والروايات بعضها تفيد أنّ الاية نزلت ففعل رسول الله هكذا .
وبعضها تفيد أنّه فعل رسول الله هكذا ، أي جمعهم تحت كساء
فنزلت الاية المباركة .
قد تكون القضيّة وقعت مرّتين أو تكرّرت أكثر من مرّتين أيضاً ، والاية تكرّر نزولها ، ولو راجعتم إلى كتاب الاتقان في علوم القرآن للجلال السيوطي لرأيتم فصلاً فيه قسمٌ من الايات النازلة أكثر من مرّة ، فيمكن أن تكون الاية نازلة أكثر من مرّة والقضيّة متكرّرة .
وسنقرأ إن شاء الله في البحوث الاتية عن حديث الثقلين : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ... » إلى آخر الحديث ، قاله في مواطن متعدّدة .
وقد ثبت عندنا أنّ النبي قال : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » أكثر من مرّة ، وإنْ اشتهرت قضيّة غدير خم .
وحديث « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » وارد عن رسول الله في مصادر أهل السنّة في أكثر من خمسة عشر موطناً .
فلا نستبعد أن تكون آية التطهير نزلت مرّتين أو أكثر ، لانّا نبحث على ضوء الاحاديث الواردة ، فكما ذكرت لكم ، بعض الاحاديث تقول أنّ النبي جمعهم تحت الكساء ثمّ نزلت الاية ، وبعض الاحاديث تقول أنّ الاية نزلت فجمع رسول الله عليّاً
وفاطمة والحسنين وألقى عليهم الكساء وقال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي » .
فالحديث في :
1 ـ صحيح مسلم(1) .
2 ـ مسند أحمد ، في أكثر من موضع(2) .
3 ـ مستدرك الحاكم(3) ، مع إقرار الذهبي وتأييده لتصحيح الحاكم لهذا الحديث(4) .
4 ـ صحيح الترمذي ، مع تصريحه بصحّته(5) .
5 ـ سنن النسائي(6) ، الذي اشترط في سننه شرطاً هو أشدّ من شرط الشيخين في صحيحيهما ، كما ذكره الذهبي بترجمة النسائي في كتاب تذكرة الحفاظ(7) .
ولا يخفى عليكم أنّ كتاب الخصائص الموجود الان بين
____________
(1) صحيح مسلم 7 / 130 .
(2) مسند أحمد 1 / 330 و 6 / 292 و 323 .
(3) المستدرك على الصحيحين 2 / 416 .
(4) تلخيص المستدرك ( ط مع المستدرك ) 2 / 416 .
(5) صحيح الترمذي 5 / 327 كتاب التفسير و 627 و 656 كتاب المناقب .
(6) خصائص علي من سنن النسائي : 49 و 62 و 81 ، ط الغري .
(7) تذكرة الحفاظ 1 / 700 .
أيدينا الذي هو من تأليف النسائي ، هذا جزء من صحيحه ، إلاّ أنّه نشر أو انتشر بهذه الصورة بالاستقلال ، وإلاّ فهو جزء من صحيحه الذي اشترط فيه ، وكان شرطه في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين في صحيحيهما .
6 ـ تفسير الطبري ، حيث روى هذا الحديث من أربعة عشر طريقاً(1) .
7 ـ كتاب الدر المنثور للسيوطي ، يرويه عن كثير من كبار الائمّة الحفّاظ من أهل السنّة(2) .
وقد اشتمل لفظ الحديث في أكثر طرقه على أنّ أُم سلمة أرادت الدخول معهم تحت الكساء ، فجذب رسول الله الكساء ولم يأذن لها بالدخول ، وقال لها : « وإنّك على خير » أو « إلى خير»(3) .
والحديث أيضاً وارد عن عائشة كذلك(4) .
واشتمل بعض ألفاظ الحديث على جملة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل
____________
(1) تفسير الطبري 22 / 5 ـ 7 .
(2) الدرّ المنثور 5 / 199 .
(3) أحمد 6 / 292 ، والترمذي ، وغيرهما .
(4) صحيح مسلم 7 / 130 .
إلى فاطمة ، وأمرها بأن تدعو عليّاً والحسنين ، وتأتي بهم إلى النبي ، فلمّا اجتمعوا ألقى عليهم الكساء وقال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي » ممّا يدل على أن النبي كانت له عناية خاصة بهذه القضيّة ، ولمّا أمر رسول الله فاطمة بأن تأتي هي وزوجها وولداها ، لم يأمرها بأن تدعو أحداً غير هؤلاء ، وكان له أقرباء كثيرون ، وأزواجه في البيت عنده ، وحتّى أنّه لم يأذن لاُمّ سلمة أن تدخل معهم تحت الكساء .
إذن ، هذه القضيّة تدلّ على أمر وشأن ومقام لا يعمّ مثل أُمّ سلمة ، تلك المرأة المحترمة المعظّمة المكرّمة عند جميع المسلمين .
إلى هنا تمّ لنا المراد من أهل البيت في هذه الاية المباركة .
وهذا الاستدلال فيه جهة إثبات وجهة نفي ، أمّا جهة الاثبات ، فإنّ الذين كانوا تحت الكساء ونزلت الاية في حقّهم هم : علي وفاطمة والحسن والحسين فقط ، وأمّا جهة النفي ، فإنّه لم يأذن النبي لان يكون مع هؤلاء أحد .
في جهة الاثبات وفي جهة النفي أيضاً ، تكفينا نصوص الاحاديث الواردة في الصحاح والمسانيد وغيرها من الاحاديث التي نصّوا على صحّتها سنداً ، فكانت تلك الاحاديث صحيحةً ،
وكانت مورد قبول عند الطرفين
يتبع